الدكتور صالح بن حميد ـ حفظه الله ـ
لا يعرف حقيقة الدنيا بصفوها وأكدارها وزيادتها ونقصانها إلا المحاسب نفسه.
فمن صفّى، صُفّي له، ومن كدّر كُدِّر عليه، ومن أحسن في ليله، كوفئ في نهاره، ومن أحسن في نهاره، كوفئ في ليله.
ومن سره أن تدوم عافيته، فليتقِ الله ربه!
فالبر لا يبلى، والإثم لا يُنسى، والديّان لا يموت، وكما تدين تُدان.
وإذا رأيت في عيشك تكديرا، وفي شأنك اضطرابا، فتذكّر نعمة ما شكرت، أو زلة قد ارتكبت
واحذر من زوال النعم، وفجاءة النقم! ولا تغتر بسعة حلم الحليم!
فجودة الثمار من جودة البذار، ومن زرع حصد، وليس للمرء إلا ما كسب، وهو في القيامة مع من أحب
يقول الفضيل ابن عياض رحمه الله
"من عرف أنه عبد الله، وراجع إليه، فليعلم أنه موقوف،
ومن علم أنه موقوف، فليعلم أنه مسؤول، ومن علم أنه مسؤول، فليعد لكل سؤال جواباً،
قيل: -يرحمك الله- فما الحيلة؟
قال: الأمر يسير؛ تـُحسن فيما بقي، يغفر لك ما مضى؛ فإنك إن أسأت فيما بقي، أُخذت بما مضى وما بقي"
أيها الإخوة
وهذه وقفة محاسبة مع النفس، بل مع أعز شيء في النفس، مع من بصلاحه صلاح العبد كله، ومع من بفساده فساد العبد كله!
وقفة مع ما هو أولى بالمحاسبة وأحرى بالوقفات الصادقة..
يقول نبيكم محمدًا صلى الله عليه وسلم: ((أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ)).
ويقول صلى الله عليه وسلم: ((لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه)).
ويقول الحسن رحمه الله: "داوِ قلبك، فإن حاجة الله إلى العباد صلاح قلوبهم، ولن تحب الله حتى تحب طاعته".
أيها المسلمون
من عرف قلبه عرف ربه، وكم من جاهل لقلبه ونفسه والله يحول بين المرء وقلبه!
يقول ابن مسعود رضي الله عنه: "هلك من لم يكن له قلب يعرف المعروف وينكر المنكر".
أيها الإخوة
لابد في هذا من محاسبة تفضّ مغاليق الغفلة، وتوقظ مشاعر الإقبال على الله في القلب واللسان والجوارح جميعا..
من لم يظفر بذلك فحياته كلها والله هموم في هموم، و أنكاد و غموم، والآم وحسرات، بل إن الله لم يبعث نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إلا بالمهمّتين العظيمتين:
1- علم الكتاب والحكمة
2- وتزكية النفوس
{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأمِّيِّينَ رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ}.
بل أن الله -عزوجل- علق صلاح عبده على تزكية نفسه، وقدم ذلك وقرره بإحدى عشر قسم متواليا، اقرؤوا إن شئتم وتأملوا:
بسم الله الرحمن الرحيم
{وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4) وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5) وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا}.
أيها الإخوة
إنّ في القلوب فاقة وحاجة لا يسدها إلا الإقبال على الله ومحبته والإنابة إليه، ولا يلم شعثها إلا حفظ الجوارح واجتناب المحرمات واتقاء المشتبهات.
معرفة القلب من أعظم مطلوبات الدين ومن أظهر المعالم في طريق الصالحين.
معرفة تستوجب اليقظة لخلجات القلب وخفقاته وحركاته ولفتاته، والحذر من كل هاجز واحتياط من المزالق والهواجز، والتعلق الدائم بالله، فهو مقلب القلوب والأبصار.
جاء في الأثر عند مسلم رحمه الله أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ يَقُولُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
((إِنَّ قُلُوبَ بَنِي آدَمَ كُلَّهَا بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ كَقَلْبٍ وَاحِدٍ يُصَرِّفُهُ حَيْثُ يَشَاءُ)).
ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((اللَّهُمَّ مُصَرِّفَ الْقُلُوبِ صَرِّفْ قُلُوبَنَا عَلَى طَاعَتِكَ اللَّهُمَّ مُصَرِّفَ الْقُلُوبِ صَرِّفْ قُلُوبَنَا عَلَى طَاعَتِكَ)).
ولا ينفع عند الله إلا القلب بالسليم {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88-89] ومن دعائه صلى الله عليه وسلم: ((وأسألك قلبا سليما)).
والقلوب أيها الإخوة أربعة
1. قلب تقي نقي فيه سراج منير –> فهو قلب المؤمن.
{أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُون}.
2. وقلب أغلق مظلم –> وهو قلب الكافر.
{وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ}.
3. وقلب منتكس منكوس –> فذلك قلب المنافق، عرف ثم أنكر، وأبصر ثم عمي.
{فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللّهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُواْ} [النساء : 88].
4. وقلب تمدّه مادتان: مادة إيمان، ومادة نفاق، فهو لما غلب عليه منهما.
وقد قال الله في أقوام: {هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ}[آل عمران : 167].
وفي القلب قوتان
1) قوة علم في إدراك الحق ومعرفته والتميز بينه وبين الباطل.
2) وقوة إرادة والمحبة في طلب الحق ومعرفته وإيثاره على الباطل.
فمن لم يعرف الحق، فهو ضال، ومن عرفه وآثر غيره، فهو مغلوب عليه، ومن عرفه واتبعه، فهو المنعم عليه السالك صراط ربه المستقيم.
يقول ابن القيم رحمه الله:
"وهذا الموضع لا يفهمه إلا الألباء من الناس والعقلاء، ولا يعمل بمقتضاه إلا أهل الهم العالية والنفوس الأبية الزاكية.
ورجل الدنيا وواحدها هو الذي يخاف موت قلبه لا موت بدنه، وأكثر الخلق يخافون موت أبدانهم ولا يبالون بموت قلوبهم!".
إذا كان الأمر كذلك -أيها الأحبة- فاعلموا أن صاحب القلب الحي يغدوا ويروح ويمسي ويصبح وفي أعماقه تسكن المحاسبة بدقات قلبه وبصر عينه وسماع أذنه وحركات يده وسير قدمه!
إحساس بأن الليل يدبر، والصبح يتنفس، والكون في أفلاكه يسبح بقدرة العليم وتقدير الحكيم {كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُّسَمًّى}.
قلب حي يتحقق به العبودية لله على وجهها وكمالها، أحب الله وأحب فيه يترقى في درجات الإيمان والإحسان، فيعبد الله على الحضور والمراقبة.
يعبد الله كأنه يراه، فيمتلئ قلبه محبة ومعرفة وعظمة ومهابة وأُنسًا وإجلالاً.
ولا يزال حبه يقوى، وقربه يدنوا حتى يمتلئ قلبه إيمانًا وخشية ورجاء وطاعة وخضوعًا وذلاًّ
((ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه)).
كلما اقترب من ربه اقترب الله منه، من تقرب إلي شبرا تقربت منه باعا
فهو لا يزال رابحًا من ربها فضل مما قدم يعيش حياة لا تشبه من ناسوا فيه من حياة {فاذكروني أذكركم}، ((من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ومن ذكرني في ملىء ذكرته في ملىء خيرا منه))، من بذل شيئا لله عوضه الله خيرا منه، وجزاه أفضل مما قدم.
أصحاب القلوب الحية صائمون قائمون خاشعون قانتون، شاكرون على النعماء، صابرون على البأساء، لا تنبعث جوارحهم إلا بموافقة ما في قلوبهم، تجردوا من الأثرة والغش والهوى، اجتمع لهم حسن المعرفة مع صدق الأدب وصفاء النفس مع فطانة العقل.
هم البريئون أيدهم، الطاهرة صدورهم، متحابون بجلال الله، يغضبون لحرمات الله، أمناء إذا ائتمنوا، عادلون إذا حكموا، منجزون إذا وعدوا، موفون إذا عاهدوا، جادون إذا عزموا، يسعون لمصالح الخلق، ويضيقون لآلمهم، في سلامة من الغل، وحسن ظن بخلق وحمل نافع أحسن بأحسن المحامل …
كسروا حظوظ النفوس، وقطعوا الأطماع في أهل الدنيا.
جاء في صحيح مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
يَدْخُلُ الْجَنَّةَ أَقْوَامٌ أَفْئِدَتُهُمْ مِثْلُ أَفْئِدَةِ الطَّيْرِ
فهي سليمة نقية، خالية من الذنب، سالمة من العيب، يحرصون على النصح والإخلاص والمتابعة والإحسان، همتهم في تصحيح العمل أكبر منها بكثرة العمل؛ {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}
أوقفهم القرآن فوقفوا، واستبانت لهم السنة فالتزموا، يؤتون ماتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون.
رجال مؤمنون ونساء مؤمنات، بواطنهم كظواهرهم بل أجلي، وسرائرهم كعلانيتهم بل أحلى، وهمهم عند الثريا بل أعلى!
إن عُرفوا تنكّروا، تحبهم بقاع الأرض، وتفرح بهم ملائكة السماء!
هذه حياة القلوب وهذه بعض آثارها..
أما القلوب المريضة.. فلا تتأثر بمواعظ، ولا تستفزها الجزر، ولا تنكرها العبر، أين الحياة في قلوب عرفت الله ولم تؤدي حقه، قرأت كتاب الله ولم تعمل به، زعمت حب رسول الله وتركت سنته
يريدون الجنة ولم يعملوا لها، ويخافون النار ولم يتقوها
ربّ امرئ من هؤلاء أطلق بصره في الحرام فحرم البصيرة
وربّ مطلق لسانه في غيبة فحرم نور القلب
وربّ قائم من الحرام فاظلم فؤاده
لماذا يحرم محرمون قيام الليل؟
ولماذا لا يجدون لذة المناجاة؟
إنه بارئ الأنفاس غليظ القلوب ظاهره جفوة القلب الميت
الهوى إمامه، والشهوة صائدة، والغفلة مركبه، لا يستجيب لناصح، ويتبع كل شيطان مريد، الدنيا تسخطه وترضيه، والهوى يصمه ويعميه، ماتت قلوبهم ثم قبرت في أجسادهم فما أجسادهم إلا قبور قلوبهم
قلوب خربة لا تؤلمها جراحات المعاصي، ولا يوجعها جهل الحق
لا تزال تترصد كل فتنة حتى تسود وتنتكس، ومن ثم لا تعرف معروفا ولا تنكر منكرا.
عباد الله
غفلة القلوب عقوبة، والمعصية بعد المعصية عقوبة، والغافل لا يحس بالعقوبات المتتالية، ولكن مالحيلة؟! فلا حول ولا قوة الا بالله.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ } [الأنفال: 24].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم وبهدي محمد صلى الله عليه وسلم..
وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب
وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم
النووور نوووورك اُختتتي